كان ذا همة عالية في طلب العلم، وقد أحبه منذ صغره، وتوجه إليه، وأخذ عن علماء المجمعة، كالشيخ، عبدالله العنقري، حيث لازمه وقرأ عليه كثيرا، ثم رحل إلى الرياض لطلب العلم، ولازم أهل العلم هناك، وأخذ عنهم وعن غيرهم، ومن أشهرهم: الشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ عبد الله عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى، ومنهم: الشيخ عبد الستار الدهلوي، وقد أجازه ببعض الإجازات، وقد أخذ عنهم العلوم الشرعية ونهل منها ،كالتوحيد، والفقه، وأصوله، وكان يحفظ المتون، ويجرد المطولات على أيديهم، وبعد أن أخذ من علماء الرياض، توجه رحمه الله إلى مكة المكرمة ونهل العلم من علمائها، ومن الوافدين إليها من جميع الأمصار، فاجتمع له علم كثير، مع همة عالية، وحرص واجتهاد، وذكاء موهوب.
ثم بعد أن أخذ حظا وافرا من العلم، أجازه مشايخه بالتدريس، فدرّس بالمسجد الحرام في: التوحيد، والحديث، والفرائض، وذلك في صحن المسجد يمين الميزاب، وكان تدريسه بعد المغرب، إلا في رمضان فكان بعد العصر، والتف حوله طلاب كثيرون لبراعته في التبسيط والتيسير، وكان يناقش ويسأل عن الدرس الماضي.
كان رحمه الله شديد الغيرة على حرمات الله، له مواقف احتساب مشرِّفة، كان قليل الكلام ،كثير التثبت، شديد التحري، مديمًا على التهجد، وكان آية في الورع، والزهد، والاستقامة في الدين، يمضي معظم نهاره في المسجد الحرام، وكان غزير الدمعة، لاتكاد تفارق خده، وكانت مجالسه مجالس علم وذكر وخشية، مع كونها مجالس علمية، وكان ذاكرا لله، سخيا كريما، يتفقد المحتاجين والأيتام والأرامل، ومما يُظهر غيرته الشديدة على محارم الله: أنه قد أزال كثيرا من الشركيات بمكة المكرمة، كما أنه حين عين قاضيا في المدينة النبوية، وحال وصوله إليها، رأى كتابات على الحجرة النبوية منها: أبيات من البردة للبوصيري وهي:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
فأمر تلاميذه أن يأتوه بما يزيل به هذه الكتابات، فصعد على السلم وأزالها، وحصل له من جراء ذلك بعض الصعاب، وكان له رأي مشهور في نقل مقام إبراهيم من مكانه إلى مكان آخر؛ لتوسعة المطاف، وألف كتابا أسماه: نقض المباني، وسيأتي بالتفصيل مناسبة تأليفه عند عرض الكتاب في مؤلفاته.
تولى القضاء بالمحكمة المستعجلة بمكة المكرمة، ثم في عام 1363ه عين قاضيا في المدينة النبوية فانتقل إليها، وصار إماما وخطيبا في المسجد النبوي، ومدرسا فيه، وبقي مدة من الزمن ثم عين عضوا برئاسة القضاء بمكة المكرمة، وبعد فترة نقل رحمه الله إلى قضاء الطائف، وفي ذات الوقت كان قد ولي إمامة وخطابة مسجد العباس بها، ثم نقل بعد ذلك إلى قضاء المجمعة، واستمر فيه حتى تقاعد عام 1369ه، فجاء إلى مكة المكرمة، وسكنها، وتجرد للإفتاء والدروس، والإرشاد بالمسجد الحرام، وتتلمذ على يديه خلق كثير، منم أبرزهم: الشيخ سليمان بن عبدالرحمن الحمدان، والشيخ عبدالله عبدالغني خياط، والشيخ صالح محمد الزغيبي، والشيخ إبراهيم بن محمد البسام، والشيخ حمد بن إبراهيم البسام، والشيخ عبد المحسن بن محمد المانع، والشيخ محمد الحصان، والشيخ علي بن عمر الأسدي، وغيرهم.
كان رحمه الله ربعة من الرجال، حسن الطلعة، وقورا، مهيبا، ذكيا، تعلوه حدة عند النقاش، وكان خطه جميلا، شارك في نسخ كتاب المغني لابن قدامة، والشرح الكبير، حيث جمع الشيخ عبدالله العنقري أجزاء الكتابين من نجد وماحولها، ثم أمر بعض طلبته بنسخها، وكان للشيخ سليمان أوفر الحظ من ذلك، وحين انتهوا من جمع الكتابين ونسخهما، بعث بهما الشيخ عبدالله العنقري إلى الملك عبدالعزيز بن سعود فطُبعا، وقد كتب بيده ذيل الطبقات لابن رجب، كما كان يقرض الشعر أحيانا، وكان مولعا باقتناء الكتب، وكون مكتبة كبيرة آلت بعد وفاته إلى جامعة الإمام محمد بن سعود، كما كان رحمه الله زاهدا ورعا، لا يتدخل في شؤون الناس إلا بالصلح والنصح، ولا يتطلع إلى مافي أيدي الناس، فلا تراه إلا عابدا لربه، أو مصلحا بين الناس، فأحبه الناس، وأحبوا القرب منه، وكان له مصلى عند مقام إبراهيم، لايفارقه إلا للتدريس، وكان يصلي الصلوات في الحرم إلا الفجر.
وفي الثاني عشر من شهر شعبان من عام 1379ه، توفي الشيخ رحمه الله في مدينة الطائف، حينما كان يصطاف بها، وصلي عليه في مسجد العباس، ودفن في الطائف.
ترك الشيخ عددا من المؤلفات، منها:
1- إتحاف العدول الثقات، بإجازة كتب الحديث والإثبات.
2- الأجوبة الحسان على أسئلة مفتي باكستان.
3- بحث في بيان حكم شرب البيبسي والكوكاكولا، وغيرهما من المشروبات الغازية والكحولية.
4- البراهين والأدلة الكافية، في القناعة برفع المسيح، وأن نزوله من أشراط الساعة القاهرة، مطبعة الإمام 1308ه.
5- بيان الحجج والأدلة: بحث في عدم الوصول إلى القمر . (مخطوط)
6- ترتيب قواعد ابن رجب على أبواب الفقه . (مخطوط)
7- جواب الأسئلة البيروتية. إجابة لأسئلة وردته من بيروت.
8- الدر النضيد على أبواب التوحيد. جدة، مكتبة الصحابة 1413ه.
9- الدرة الثمينة في الفرائض. مؤسسة النور للطباعة 1392ه .
10- رسالة في مناسك الحج.
11- طبقات الحنابلة. (مخطوط).
12- أدلة النصوص المصدقة، على رد الأكاذيب الملفقة، من أهل الإلحاد والزندقة. ألفه ردا على من أثبت دوران الأرض، حيث كان الشيخ يرى أن الأرض ثابتة، وأنها لاتدور، والكتاب ردٌّ بالخصوص على: محمد محمود الصواف، في كتابه: (المسلمون وعلم الفلك).
13- دلالة النصوص والإجماع، على فرض القتال للكفر والدفاع.
ألفه في معرض الرد على من عزا كتابا لشيخ الاسلام ابن تيمية، فيه أن قتال الكفار لقتالهم لنا فقط، لا لدينهم، وأنهم لا يقاتلون إلا إن قاتلونا، أي عدم القول بجهاد الطلب، فبين أن هذا الكتاب لا يثبت عن شيخ الإسلام. دار الطباعة والنشر، عمّان، الأردن.
14- مجموع يضم فتاوى وأشعار ورسائل عدة . (مخطوط)
يقيد فيه مايراه، أو يسمعه، أو يقرأه، من الفرائد وغرائب المسائل، وأغلب نقله في الفوائد الحديثية، والألغاز الفقهية، والأسرار اللغوية، والنكات النحوية.
15- ملاحظاتي حال مطالعاتي.
يقيد فيها مايراه من تحقيقات، وتصحيحات وتصويبات، وكما هو واضح فإنها تكون أثناء مطالعاته، فهي أقرب إلى المراجعة والتقويم لما يقرأ.
16- نظم دليل الطالب في الفقه الحنبلي.
17- نقض المباني من فتوى اليماني. وهو رد على مؤلف للشيخ عبدالرحمن المعلمي اليماني، أباح فيه نقل مقام إبراهيم إلى مكان آخر؛ لتوسعة المطاف، فرد عليه بهذا الكتاب، وبين عدم جواز ذلك، وأصبحت القضية قضية واسعة في الأوساط العلمية، وقد كتب الشيخ محمد بن إبراهيم ردا على الشيخ سليمان، في كتاب سماه: الجواب الواضح المستقيم، في جواز نقل مقام إبراهيم، كما ألف كتابا آخر بعنوان: نصيحة الإخوان، ببيان بعض مافي نقض المباني من الخبط والخلط والجهل والبهتان. وانتهت النقاشات العلمية هذه بإبقاء المقام في محله. القاهرة مطبعة المدني 1383ه
18- هداية الأريب الأمجد، في معرفة أصحاب الرواية عن الإمام أحمد. تحقيق: بكر أبوزيد. دار العاصمة، الطبعة الأولى 1418ه.
مصادر ترجمته:
1/ أعلام المكيين لعبدالله بن عبدالرحمن المعلمي، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، الطبعة الأولى 1421هـ. (1/394-355).
2/ تتمة الأعلام للزركلي، لمحمد خير رمضان، دار ابن حزم، الطبعة الثانية 1422ه. (1/214)
3/ تكملة معجم المؤلفين محمد خير رمضان، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1418هـ. (216).
4/ جهود بعض علماء البلد الحرام في تقرير العقيدة السلفية في القرن الرابع عشر لعبد المحسن بن ردة الحربي. (452).
5/ علماء نجد خلال ثمانية قرون لعبدالله بن عبدالرحمن البسام، دار العاصمة، الطبعة الثانية 1419ه. (3/295-300).
6/ المبتدأ والخبر لعلماء في القرن الرابع عشر وبعض تلاميذهم، لإبراهيم بن محمد بن ناصر السيف، دار العاصمة، الطبعة الأولى 1426ه. (1/432-466).
7/ معجم المعاجم والمشيخات، والفهارس والبرامج والأثبات. ليوسف المرعشلي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1423ه (2/566-568).
8/ مقدمة هداية الأريب الأمجد، في معرفة أصحاب الرواية عن الإمام أحمد. تحقيق: بكر أبوزيد. دار العاصمة، الطبعة الأولى 1418ه.
9/ نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر وبذيله عقد الجوهر في علماء الربع الأول من القرن الخامس عشر ليوسف المرعشلي، دار المعرفة، الطبعة الأولى 1427هـ .(492-493).
• ترجمة خاصة لوقف علماء مكة الخيري من إعداد/ إبراهيم محمد صديق.