وانضم رسميًّا إلى مدرسي مدرسة الصولتية، بالرغم من أن عمره لم يتجاوز الثامنة عشر، وكان الشيخ قد تزوج من ابنة عمه وعمره ست عشرة سنة، وكان يذكرها بخير، وقد أعانته في مشواره في طلب العلم.
كان رحمه الله أثناء دراسته في الصولتية يحفظ الكثير من المتون، وقد تأثر في ذلك بمشايخه من موريتانيا وما جاورها، وكان من محفوظاته: تحفة الحكام في علم الوثائق والإبرام، وهو في علم القضاء لأبي بكر الأندلسي، وألفية مراقي السعود، في أصول الفقه المالكي، من نظم عبدالله العلوي الشنقيطي، ومنظومة عمود النسب في علم الأنساب، لأحمد البدوي الشنقيطي، وألفية ابن مالك، وألفية العراقي، والجوهر المكنون في البلاغة، والسلم المنورق في المنطق، وغير ذلك من المتون العلمية، وبعضها تتجاوز الألف بيت، ومع حرصه على الحفظ والإتقان والأخذ عن علماء الصولتية، إلا أنه أيضا كان يلازم العلماء خارج مدرسته، فكان يحضر لعلماء مكة، والوافدين إليها، ويلازمهم، ويدرس عليهم، ومن المشايخ الذين لازمهم وأخذ عنهم: الشيخ محمد عبدالله زيدان، وكان قد دخل مكة فاجتمع به ولازمه. يقول عنه الشيخ: ( وكنت فارغا ليس لي شغل إلا العلم، فكنت آتيه في داره إلى قرب الزوال، وكنت أستعمل معه شيئا من السياسة، فكنت أغيب اليوم واليومين، وأحيانا آتي فأُردّ وأرجع )، وهذا يبين شدة تعلق الشيخ بالعلم والعلماء، وملازمتهم، والأخذ عنهم، وكان من مشايخه أيضا: حمدان بن سيدي الجزائري، وقد قرأ عليه حين قدم مكة حاجًّا عام 1337ه،ـ قرأ عليه في مكة والمشاعر، ومنهم الشيخ: عبدالرحمن دهان، ويذكر أنه كان حريصا على إفهام الطلبة، وكانت دروسه مليئة بالنقاشات العلمية، فاستفاد منه الشيخ فائدة كبيرة، ومنهم الشيخ: عيسى روّاس، وقد قرأ عليه الكثير من المتون العلمية، واستفاد منه كثيرا، ومنهم الشيخ: محمد عبدالله الكتاني، والشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، والشيخ محمد الخضر الجكني، وقد لازمهم، وحصل على إجازات من كثير منهمم، وممن أجازه: الشيخ عبدالقادر شلبي الطرابلسي، والشيخ محمد عبدالباقي الأنصاري.
استفاد الشيخ في تحصيله العلمي -إضافة إلى الأخذ من العلماء مباشرة- من المكتبات، ونوادر المخطوطات التي نسخها بيده، وكان من ثمار هذه الملازمة للعلماء، والمطالعة الدائمة للكتب، ونسخ المهم منها، كان من ثمارها التصنيفات النافعة التي صنفها الشيخ رحمه الله، وقد قضى حياته باحثًا، وعالمًا، ومتعلمًا، ومفيدًا للناس.
ومما قوى الشيخ علميا، وأثرى فكره: رحلاته العلمية إلى عدد من البلدان، حيث لم يكتف الشيخ بالعلماء الذين كانوا يفدون إلى مكة المكرمة، والأخذ عنهم رغم أنهم كانوا كثيرين، ورغم أن مكة المكرمة محطّ رحال العلماء، ويفد إليها في كل عام علماء كثيرون، إلا أن الشيخ رحمه الله أراد أن يأخذ عن علماء الأمصار، فسافر إلى عدد من الدول، منها: السودان، سافر إليها عام 1364ه، واجتمع بعلمائها، ووجهائها، وكان يحاضر في بعض مساجدها، ويتباحث العلم الشرعي مع العلماء، وطلبة العلم، وأقام فيها قرابة خمسة أشهر، ثم رحل منها إلى مصر، وقابل علماءها، وتبادل معهم الإجازات العلمية، وكان ممن قابلهم فيها: الشيخ سلامة القضاعي، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ أحمد عبدالرحمن الساعاتي، وقد كان يلقي الدروس والمحاضرت في جوامع القاهرة، ثم قام برحلة إلى الشام، قابل فيها الشيخ محمد العربي العزوزي، والشيخ عبدالعزيز عيون السود، والشيخ عبدالفتاح أبو غدة، والشيخ جميل الشطي، وغيرهم، ومنها توجه إلى مصر مرة أخرى، ثم عاد إلى مكة.
إلى جانب علم الشيخ، وفضله، ومكانته العلمية العالية، كان رحمه الله قدوة للناس، وكان فيه عزة العلماء، ويؤثر طلابه على أي شيء آخر من منصب ودنيا، وكان يغرس هذا في طلابه، وكثيرا ما يردد:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
كان -مع ما أوتيت أسرته من بسطة في العيش- غير مترفٍ، حَسن المعشر، رقيق الجانب، يلاطف الكبار، ويلاعب الصغار، وكان باسط اليد، خاصة على طلبته، حيث يسدّ حاجاتهم، ويتابع أحوالهم، وكان له الفضل بعد الله في متابعة عدد من الطلاب دراساتهم حتى أصبحوا علماء، وكانوا لا يملكون زادا ولا نفقة، كما كان رحمه الله وفيًّا مع مشايخه، ويذكرهم بخير، وكل هذا مع صلاحٍ، وتقوى، وذكر دائم، وكثرة للصدقات، وهذا غرس والده فيه، قد أنبت رجلا كريم الخصال، يجمع خصال الخير.
بعد أن أخذ الشيخ نصيبا وافرًا من العلم، وثنى ركبتيه في مجالس العلماء، وأمضى الساعات في المكتبات، وبين المخطوطات، وبعد أن أخذ الشيخ رحمه الله عن علماء زمانه، وحصل منهم على إجازات، أذن له بالتدريس في المسجد الحرام، فكان رحمه الله يدرس في عمله الرسمي في الصولتية، ويلقي دروسًا في الحرم، وكان لاينطقع عن هذه الدروس مهما كانت العقبات، حتى في مواسم الزحام والحرم كان يلقي دروسه، وكان يرفض أن يأخذ على هذه الدروس راتبًا، أو مكافأة، وكان طلابه من كل البلاد، واستفاد منه خلق كثير، ومن أشهرهم: الشيخ محسن ابن السيد المساوي؛ المدرس بالصولتية، والشيخ محمد بن عبدالكريم السناري؛ مدير المعهد العلمي للمعلمين بالمدينة المنورة، والشيخ زكريا ابن عبدالله بيلا؛ المدرس بالمسجد الحرام، والشيخ ياسين الفاداني؛ المدرس بالمسجد الحرام ،ومدير مدرسة دار العلوم الدينية بمكة المكرمة، ومنهم الشيخ، عبدالفتاح بن حسين المكي؛ المدرس بالمسجد الحرام، والشيخ محمد زين الدين الأنفناني؛ مؤسس مدارس نهضة الوطن وفروعها -وهي قرابة 400 فرع- بأندونيسيا، كما تتلمذ عليه عدد من وجهاء مكة وأعيانها، منهم: جميل خشيفاتي، و منصور عطا الله السوداني، ورشيد فارسي، ويحيى قزاز،
كان رحمه الله يتدرج مع طلبة العلم، ويبدأ بصغار الكتب حتى يصل للمطولات، وهكذا في كل فن من الفنون، وكان في الحرم يبدأ مع مجموعة بصغار الكتب؛ حتى يتعودون على العلم، ويصل بهم إلى المطولات، ويبقى كذلك يعلمهم، ويلقي عليهم الدروس، ويناقشهم في المسائل العلمية، حتى يتخرجوا من بين يديه فتأتي مجموعة أخرى مكانها، وكان مما درّس في الحرم المكي: التفسير، والحديث، وقد درس الكتب الستة، وأعاد تدريس بعضها، كالبخاري ومسلم، ودرّس علوم الحديث في كتابيه: شرح البيقونية، ورفع الأستار، كما واهتم رحمه الله بتدريس الفقه المالكي، فدرّس ابن عاشور وشروحه، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني، كما درس في أصول الفقه: الورقات، وجمع الجوامع، ونشر البنود شرح مراقي السعود، وكان رحمه الله حكيما في تدريسه، فقد كان في أيام المواسم يدرّس ما يليق بالحدث والزمان، فكان في رمضان يدرّس الشفاء للقاضي عياض، والشمائل المحمدية، ويدرس مناسك الحج في الحج .
شغل الشيخ رحمه الله عددا من الوظائف في حياته – غير تدريسه بالمدرسة الصولتية- ففي عام 1361هـ صدر الأمر الملكي بتعيينه عضوًا بمحكمة التمييز، وكان يرأسها الشيخ محمد بن مانع، وفي نفس الوقت انتخب عضوًا في النظر في شؤون مكتبة الحرم المكي، ثم عُيِّن وكيلًا بمكة عن رئيس المحكمة الشرعية الكبرى، وذلك عام 1365هـ، وبقي على ذلك سنتين، ثم عين عضوًا رسميًّا في المحكمة الشرعية بمكة المكرمة، وفي عام 1372ه في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز عين عضوًا بمجلس الشورى؛ إلا أنه أعيد إلى القضاء معاونًا لرئيس المحكمة الشرعية الكبرى، وكان ذلك بطلب من رئيس القضاة: الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ، واستمر على ذلك حتى قدم استقالته في سنة 1375ه؛ـ ليتفرغ للتدريس بالحرم الشريف، مع أنه كان لا ينقطع عن دروسه مع انشغاله بوظائفه، سواء في الحرم المكي أو حتى في الصولتية.
بنى رحمه الله مسجدا بحيّه، وقام بأعمال الإنشاء والإشرف عليها: ابنه أحمد، وقد صلى فيه التراويح مع طلبته الحفظة عام 1399ه، وكان الشيخ قد عوّد الناس والطلاب على ختم القرآن في الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان، إلا أن الطلاب فوجؤوا بمرضه في نفس الليلة، ونقل إلى مستشفى أحمد زاهر، وأصيب بجلطة في الدماغ، وبقي كذلك حتى السابع من شوال عام 1399ه حيث توفي رحمه الله، ودفن بالمعلاء بحوطة السادة باعلوي، وقد حضر جنازته طلابه، ومشايخه، وعلماء ووجهاء مكة.
ترك الشيخ رحمه الله بعد موته تراثا علميا، لازال الناس يتنفعون به، فمن مؤلفاته:
1/ أربعون حديثا من أبواب شتّى في الترغيب والترهيب، ألفه عام 1397ه، جدة، مطابع البنوي، الطبعة الأولى 1398ه.
2/ الإرشاد، بذكر بعض مالي من الإجازة والإسناد، ألفه عام 1370ه .
3/ إسعاف أهل الإسلام بوظائف الحج إلى بت الله الحرام، ألفه عام 1379ه، جدة، مطابع البنوي، الطبعة الثالثة عام 1397ه.
4/ إسعاف أهل الإيمان بوظائف شهر رمضان، ألفه عام 1355ه، جدة، مطابع البنوي، الطبعة الرابعة.
5/ إنارة الدجى في مغازي خير الورى، شرح فيه منظومة أحمد البدوي الشنقيطي، ألفه عام 1360ه، طبع بجدة، بمطبعة الأصبهاني، ـ الطبعة الثالثة عام 1396ه.
6/ بغية المسترشدين بترجمة الأئمة المجتهدين، ألفه عام 1383ه، طبع بأندونيسيا.
7/ البهجة السنية في شرح الخريدة، في علم التوحيد، ألفه عام 1386ه، طبع بأندونيسيا بمطبعة السقاف.
8/ التحفة السنيّة في أحوال الورثة الأربعينية، وهو في علم الفرائض، ألفه عام 1346ه، جدة، دار الأصبهاني، الطبعة الخامسة عام 1396ه.
9/ التقريرات السنية، في شرح المنظومة البيقونية، ألفه عام 1350ه، طبعت في مطابع البنوي بجدة الطبعة الحادية عشر عام 1392ه، وطبع محققا ببيروت، دار الكتاب العربي، عام 1406ه.
10/ الجواهر الثمينة في أدلة عالم المدينة، وهو في أصول الفقه ألفه عام 1341ه، من تحقيق: عبدالوهاب أبو سليمان، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1406ه.
11/ حكم الشريعة المحمدية في تعليم المسلمين أولادهم بالمدارس الأجنبية، ألفه عام 1373ه، مصر، مطابع المدني عام 1385ه .
12/ الحدود البهية في القواعد المنطقية، مخطوط ذكره محمد عبدالكريم في الثبت الكبير .
13/ رسالة في صلاة الجمعة وفضلها.
14/ رفع الأستار عن محيّا مخدرات طلعة الأنوار، في علم آثار النبي المختار، وهو في علم مصطلح الحديث، شرح فيه: منظومة طلعة الأنوار، لعبدالله بن إبراهيم العلوي، الذي اختصر فيه ألفية العراقي، ألفه عام 1349ه، مكة المكرمة، مكتبة النهضة العربية، 1375ه.
15/ نصائح دينية ووصايا هامة، ألفها عام 1398ه، مكة المكرمة، شركة الطباعة، الطبعة التاسعة 1399ه.
16/ نيل المنى والمأمول، على لبّ الأصول.
مصادر ترجمته:
1/ أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة لمحمد علي مغربي، دار تهامة. (3/309-335).
2/ أعلام المكيين لعبدالله بن عبدالرحمن المعلمي، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، الطبعة الأولى 1421هـ. (885-888).
3/ تتمة الأعلام للزركلي، لمحمد خير رمضان، دار ابن حزم، الطبعة الثانية 1422ه. (137).
4/ تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع. لمحمد سعيد بن محمد ممدوح، الطبعة الثانية، بيروت 1434ه. (320-327).
5/ تكملة معجم المؤلفين محمد خير رمضان، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1418هـ. (149-151).
6/ الثبت الكبير في مشيخة وأسانيد وإجازات الشيخ حسن المشاط، دراسة وتحقيق: محمد عبدالكريم، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 1426ه (19-56).
7/ الجواهر الثمينة، في بيان أدلة عالم المدينة. لحسن المشاط، تحقيق: عبدالوهاب أبو سليمان، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية 1411ه ( 17-72).
8/ الدور التربوي لحلقات العلم بالمسجد الحرام في عهد الملك عبدالعزيز. لحسن بن محمد شعيب، 1428ه (257).
9/ المبتدأ والخبر لعلماء في القرن الرابع عشر وبعض تلاميذهم، لإبراهيم بن محمد بن ناصر السيف، دار العاصمة، الطبعة الأولى 1426ه. (1/236-245).
10/ معجم المعاجم والمشيخات، والفهارس والبرامج والأثبات. ليوسف المرعشلي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1423ه (3/571-574).
11/ نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر وبذيله عقد الجوهر في علماء الربع الأول من القرن الخامس عشر ليوسف المرعشلي، دار المعرفة، الطبعة الأولى 1427هـ . (356-358).
• ترجمة خاصة لوقف علماء مكة الخيري من إعداد/ إبراهيم محمد صديق.